درس في الزهد في حياة رسول الله ﷺ
الحمد لله الذي أغنى القلوب بحبه وملأ النفوس رضًا بقضائه، أحمده سبحانه وأشكره على نعم لا تُحصى ولا تُعد، وأصلي وأسلم على قدوتنا ونبينا محمد ﷺ، الذي عاش الزهد في حياته قولًا وفعلاً، وعلى آله وصحبه ومن سار على هديه إلى يوم الدين.
أيها الأحبة، حديثنا اليوم عن الزهد في حياة نبينا الكريم ﷺ، الذي جسّد لنا كيف يعيش الإنسان في الدنيا دون أن تتعلق بها نفسه، وكيف يجعل الآخرة هي غايته وهدفه. قال الله تعالى في كتابه الكريم:
"وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ" (آل عمران: 185).
الدنيا، مهما بلغت زينتها ولذاتها، لا تعدو أن تكون متاعًا زائلًا، والآخرة هي الحياة الحقيقية التي ينبغي أن نعمل لها ونسعى لنيل رضا الله فيها.
ومن تأمل حياة النبي ﷺ وجدها مليئة بالدروس العظيمة في الزهد. فقد عاش أعظم الخلق وأكرمهم حياة بسيطة، بعيدًا عن مظاهر الترف والرفاهية. روى ابن عباس رضي الله عنهما:
"كان رسول الله ﷺ يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاوين لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير."
تخيلوا أيها الأحبة، سيد الخلق ينام جائعًا، ومع ذلك لم يكن قلبه متعلقًا بالدنيا أو يشكو نقصًا فيها. كان يعيش راضيًا بما قسمه الله له، مستعينًا بذلك على طاعة الله. ولم تكن حياته مليئة بالمظاهر الدنيوية، حتى أن عائشة رضي الله عنها قالت:
"إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أُوقد في أبيات رسول الله ﷺ نار."
هذا المشهد يعطينا درسًا عظيمًا في الرضا والقناعة. النبي ﷺ عاش بسيطًا، لكنه كان أغنى الناس قلبًا. كان يعلمنا أن الزهد لا يعني ترك العمل أو الابتعاد عن الدنيا، بل يعني أن لا يكون القلب متشبثًا بها.
وفي الحديث الشريف قال النبي ﷺ:
"من أصبح وهمه الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له. ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة."
الزهد ليس في ترك المأكل أو الملبس، لكنه في القلب الذي لا يتعلق بشيء سوى الله. هو أن تكون غنيًا بما قسمه الله لك، مطمئنًا بأن السعادة ليست في المال أو المتاع، بل في القرب من الله والعمل لمرضاته.
وقد لخص العلماء مفهوم الزهد بكلمات بليغة. قال سفيان الثوري رحمه الله:
"ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت."
أيها الأحبة، النبي ﷺ عاش هذه الدنيا وكأنه غريب، يعلم أنها دار ممر وليست دار مقر. كان همه الأكبر هو مرضاة الله والعمل لآخرته، فكان يقول:
"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل."
هذه الكلمات تعلمنا أن الزهد لا يعني الحرمان، بل يعني الرضا والقناعة والتطلع إلى الآخرة، مع بذل الجهد في العمل الصالح. قال ابن عياض رحمه الله:
"أصل الزهد الرضا عن الله عز وجل."
أيها الإخوة، فلنتعلم من النبي ﷺ ومن حياته العطرة كيف نعيش الزهد. ليس المطلوب أن نترك أعمالنا أو نبتعد عن دنيا الناس، بل أن نعيش في الدنيا ونستخدمها وسيلة للوصول إلى مرضاة الله، دون أن تتعلق قلوبنا بها.
اللهم اجعلنا من الزاهدين في الدنيا، الراغبين في الآخرة، واغننا بحبك ورضاك عما سواك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
خطبة الجمعة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام، وهدانا إلى صراطه المستقيم، وأرشدنا إلى الخير، وحثنا على الزهد في الدنيا، لنعيش بقلوب متعلقة بالآخرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، إمام الزاهدين، وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله، أوصيكم ونفسي المقصّرة بتقوى الله عز وجل، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال سبحانه:
"وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ" (النساء: 131).
أيها المسلمون، حديثنا اليوم عن الزهد في حياة رسول الله ﷺ. الزهد هو أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك، وأن تكون مطمئنًا بقضاء الله وقدره. وقد ضرب لنا النبي ﷺ أروع الأمثلة في الزهد، كيف لا وهو الذي قال:
"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل."
كان رسول الله ﷺ يعيش حياة بسيطة، مع أنه أفضل خلق الله. روى ابن عباس رضي الله عنهما:
"كان رسول الله ﷺ يبيت الليالي المتتابعة وأهله طاوين لا يجدون عشاءً، وكان أكثر خبزهم خبز الشعير."
تأملوا عباد الله، النبي ﷺ الذي فتح الله له خزائن الأرض، كان يختار البساطة ويرضى بالقليل. لم تكن الدنيا هدفه، بل كانت وسيلة لتحقيق رضا الله.
وفي حديث آخر قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:
"إن كنا لننظر إلى الهلال، ثم الهلال، ثم الهلال، ثلاثة أهلة في شهرين، وما أُوقد في أبيات رسول الله ﷺ نار."
ما أعظم هذا الزهد، وما أجمله من درس. رسول الله ﷺ يعلمنا أن السعادة الحقيقية ليست في المال ولا في متاع الدنيا، بل في رضا الله والقرب منه.
قال الله تعالى:
"وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ" (آل عمران: 185).
عباد الله، هذه الدنيا زائلة، ومتاعها قليل، فلا تغرّنكم المظاهر ولا تسلبنكم زينتها قلوبكم. من جعل الآخرة همه سعد في دنياه وآخرته، ومن جعل الدنيا همه فقد فاته الخير كله.
نسأل الله أن يرزقنا القناعة والرضا، وأن يجعل الدنيا في أيدينا لا في قلوبنا. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها المسلمون،
إن الزهد لا يعني ترك العمل أو الامتناع عن السعي في طلب الرزق، بل يعني أن يكون القلب معلقًا بالله، راضيًا بقضائه، لا يتعلق بالدنيا. قال النبي ﷺ:
"من أصبح وهمه الدنيا فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُدِّر له. ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة."
الزهد هو أن نعمل للدنيا، لكن أعيننا وقلوبنا تكون متعلقة بالآخرة. كما قال سفيان الثوري رحمه الله:
"ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل، وارتقاب الموت."
أيها الأحبة، فلنتعلم من نبينا ﷺ كيف نعيش في الدنيا دون أن نغتر بها، وكيف نعمل لآخرتنا دون أن نهمل مسؤولياتنا. فقد عاش النبي ﷺ زاهدًا في دنياه، لكنه كان أحرص الناس على العمل الصالح، وعلى إصلاح مجتمعه وأمته.
فلنتق الله عباد الله، ولنقصر أملنا في الدنيا، ونسعى لرضا الله والعمل لما ينفعنا في الآخرة.
اللهم إنا نسألك بفضلك ورحمتك أن تجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اجعلنا من الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، الذين لا تلهيهم فتنة الحياة عن طاعتك وعبادتك، اللهم اجعلنا من الذين يسيرون على سنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، ويتبعون هديه في أقوالهم وأفعالهم، ويقتفون أثره في زهدهم وعبادتهم، اللهم اجعلنا من الذين يحبونك ويحبون رسولك ويعملون بكتابك وسنة نبيك، اللهم ارزقنا الإخلاص في القول والعمل، ووفقنا لما تحب وترضى.
اللهم إنا نسألك يا أرحم الراحمين أن تفرج همومنا، وتغفر ذنوبنا، وتشفي مرضانا، وترزقنا من واسع فضلك، اللهم اجعلنا من الذين يرضونك، الذين لا يعظمون الدنيا ولا يشغلهم متاعها الزائل، بل يطلبون مرضاتك ويرجون فضل الآخرة. اللهم اجعل قلوبنا ثابتة على دينك، وأرواحنا مطمئنة بذكرك، وأعمالنا مقبولة عندك، اللهم اجعلنا من أهل الزهد في الدنيا، ومن الذين يسعون لرضاك ويعملون لآخرتهم.
هذا، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد، كما أمركم ربكم فقال:
"إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا" (الأحزاب: 56).
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قصة أمين: الطموح والزهد
كانت المدينة تعج بأصوات السيارات وضجيج الحياة اليومية. في أحد الأبراج الزجاجية العالية، جلس أمين خلف مكتبه الفخم، محاطًا بشاشات تعرض تقارير الأرباح وأرقامًا تنبض بالحياة، لكنها لم تعد تثير فيه شعور الانتصار كما في الماضي. أمين، الشاب الذي بدأ من لا شيء، كان قد تحول إلى رجل أعمال ناجح يمتلك واحدة من أكبر الشركات في المدينة. ورغم ذلك، شعر بشيء ينقصه، شيء لا يعوضه المال ولا الصفقات.
في أحد الأيام، بعد يوم طويل ومضنٍ، دخل إلى منزله الفسيح حيث استقبلته زوجته "سلمى"، المرأة الصالحة التي كانت دائمًا تذكره بالله، لكنها لم تكن تلح عليه. ابتسمت له وقالت بصوت دافئ:
- "تعبت اليوم كثيرًا، أليس كذلك؟"
- "كالعادة يا سلمى، العمل لا ينتهي..." ثم أضاف بصوت خافت وكأنه يحدث نفسه: "لكن لماذا أشعر بأنني أركض بلا وجهة؟"
كانت سلمى تعلم أن هناك فجوة في قلب أمين، لكنه لم يعترف بها صراحة. أعدت له كوبًا من الشاي وجلست بجواره، ثم قالت بحكمة:
- "تعرف يا أمين، المال نعمة كبيرة، لكن إذا لم يُبارَك فيه، يصبح عبئًا. ربما تحتاج إلى وقت تهدأ فيه وتفكر بعيدًا عن الضجيج."
في تلك الليلة، بينما كان أمين يستعد للنوم، سمع صوت الأذان يخترق سكون الليل. كانت نبرة المؤذن مختلفة، كأنها تحمل نداء خاصًا له. تردد لوهلة، ثم قرر أن يذهب.
دخل المسجد، وكان بسيطًا، يختلف تمامًا عن كل ما في حياته. استقبله الإمام، رجل مسنّ بلحية بيضاء ووجه يضيء بالإيمان. ابتسم له الإمام كأنه يعرفه منذ زمن. بعد الصلاة، اقترب أمين وسلم على الإمام الذي سأله بابتسامة:
- الإمام: "أهلا بك يا بني... لقد سعدت برؤيتك؟"
- أمين: "أهلا بك شيخي الفاضل."
- الإمام: "هل أنت بخير؟"
- أمين: "لا أعرف... ربما أبحث عن شيء فقدته."
ضحك الإمام برفق وقال:
- "ربما لم تفقده، بل دفنته تحت ضجيج الدنيا."
كان لهذه الكلمات وقع كبير على أمين. بدأ يحدث الإمام عن حياته، عن نجاحه الكبير، وعن شعوره المتزايد بالفراغ. استمع الإمام باهتمام، ثم قال:
- "يا بني، العمل عبادة إذا كان فيه نية صالحة، لكن القرب من الله هو الذي يعطي العمل معناه. هل جربت أن تجعل الله شريكك في كل خطوة؟ أن تجعل رضا الله هدفك قبل كل شيء؟"
عاد أمين إلى بيته تلك الليلة وهو يفكر في كلمات الإمام. في الصباح، قرر أن يبدأ يومه بتغيير صغير: صلى الفجر في المسجد. هناك التقى بشاب اسمه "خالد"، كان من رواد المسجد، يعمل في مؤسسة خيرية صغيرة. دعاه خالد للانضمام إلى مشروعهم لإطعام الفقراء.
بدأ أمين يخصص جزءًا من وقته للمشروع، وكان يذهب بنفسه لتوزيع الطعام. في أحد الأيام، بينما كان يقدم وجبة لرجل عجوز، أمسك العجوز بيده وقال:
- "بارك الله فيك يا بني، لو تعلم كم أدخلت السعادة على قلبي."
تلك الكلمات جعلت قلب أمين يهتز. شعر بسعادة لم يشعر بها حتى عندما حقق أكبر صفقاته. بدأ يدرك أن الحياة ليست فقط في تحقيق النجاح المادي، بل في ترك أثر طيب في حياة الآخرين.
من ناحية أخرى، كانت سلمى تدعمه بصمت. لاحظت التغيير الذي طرأ عليه، فرحبت به وشجعته على المضي قدمًا. كانت تقول له:
- "يا أمين، النجاح الحقيقي هو أن تخرج من الدنيا وقلبك مليء بحب الله، وأعمالك مليئة بالنفع للناس."
شيئًا فشيئًا، بدأ أمين يوازن بين حياته العملية وحياته الروحية. كان يذهب إلى المسجد يوميًا، يجلس مع الإمام ويتعلم منه دروسًا في الزهد والتوكل على الله. بدأ يتصدق بانتظام، ليس فقط بالمال، بل بوقته وجهده.
وفي يوم الجمعة، طلب منه الإمام أن يلقي كلمة قصيرة بعد الصلاة. تردد في البداية، لكنه وافق. وقف أمام المصلين، وبدأ يتحدث عن رحلته. قال بصوت خاشع:
- "كنت أعتقد أن النجاح هو أن أملك كل شيء، لكنني أدركت أن النجاح الحقيقي هو أن أملك السلام في قلبي. تعلمت أن المال وسيلة، وليس غاية، وأن القرب من الله هو الراحة التي لا تعوض."
بعد كلمة أمين، اقترب منه شاب وقال:
- "كلامك أعادني إلى طريق الصواب، كنت قد انشغلت بالدنيا مثلك، فاكتشفت أنني مخطئ و حان وقت التغيير"
تأثر أمين بشدة، وأدرك أن رحلته لم تكن لنفسه فقط، بل ليكون قدوة لغيره.
مرت السنوات، وأصبح أمين رمزًا للشاب المسلم الذي يجمع بين العمل الجاد والقرب من الله. لم يعد فقط رجل أعمال ناجحًا، بل صار رجلًا ذا رسالة. كان يقول دائمًا:
- "العمل عبادة، والرزق الحلال بركة، لكن السعادة الحقيقية في أن يكون قلبك متعلقًا بالله، وأن تجعل الدنيا جسرًا إلى الآخرة."
وهكذا، انتهت قصة أمين، لكنها كانت بداية لحياة مليئة بالنور، حياة توازن بين النجاح في الدنيا والفلاح في الآخرة.